فصل: حوادث سنة خمس وأربعين ومائتين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.حوادث سنة ثلاث وأربعين ومائتين:

وفي هذه السنة سار المتوكل إلى دمشق في ذي القعدة على طريق الموصل، فضحى ببلد فقال يزيد بن محمد المهلبي:
أظن الشام تشمت بالعراق ** إذا عزم الإمام على انطلاق

فإن يدع العراق وساكينه ** فقد تبلى المليحة بالطلاق

وفيها مات إبراهيم بن العباس بن محمد بن صول الصولي، وكان أديباً شاعرأن فولي ديوان الضياع الحسن بن مخلد الجراح، خليفة إبراهيم.
ومات عاصم بن منجور، وحج بالناس عبد الصمد بن موسى؛ وحج جعفر بن دينار وهووالي الطريق وأحداث الموسم.
وفيها خرج أهل طليطلة بجمعهم إلى كلبيرة وعليها مسعود بن عبد الله العريف، فخرج إليهم فيمن معه ن الجنود، فلقيهم، فقاتلهم، فانهزم أهل طليطلة، وقتل أكثرهم، وحمل إلى قرطبة سبع مائة رأس.
وفيها توفي شهيد بن عيسى بن شهيد الأندلسي، وكان من العلماء.
وفيها توفي يعقوب بن إسحاق بن يوسف المعروف بابن السكيت، النحوي الغوي، وقيل سنة أربع، وقيل خمس، وقيل ست وأربعين؛ والحارث ابن أسد المحاسبي أبوعبد الله الزاهد، وكان قد هجره الإمام أحمد بن حنبل لأجل الكلام، فاختفى لتعصب العامة لأحمد، فلم يصل عليه إلا أربعة نفر.

.حوادث سنة أربع وأربعين ومائتين:

في هذه السنة دخل المتوكل مدينة دمشق في صفر، وعزم على المقام بهأن ونقل دواوين الملك إليهأن وأمر بالبناء بهأن ثم استوبأ البلد وذلك بان هواءه بارد ندي، والماء ثقيل، والريح تهب فيها مع العصر فلا تزال تشتد حتى يمضي عامة الليل، وهي كثيرة البراغيث؛ وغلت الأسعار، وحال الثلج بين السابلة والميرة، فرجع إلى سامرأن وكان مقامه بدمشق شهرين وأيامأن فلما كان بها وجه بغا الكبير لغزوالروم، فغزا الصائفة فافتتح صملة.
وفيها عقد المتوكل لأبي الساج على طريق مكة مكان جعفر بن دينار، وقيل عقد له سنة اثنتين وأربعين وهوالصواب.
وفيها أتى المتوكل بحربة كانت للنبي، صلى اله عليه وسلم، وتسمى العنزة، فكانت لنجاشي، فأهداها للزبير بن العوام، وأهداها الزبير للنبي، صلى الله عليه وسلم، وهي التي كانت تركز بين يدي النبي، صلى اله عليه وسلم، في العيدين، فكان يحملها بين يديه صاحب الشرطة.
وفيها غضب المتوكل على بختيشوع الطبيب، وقبض ماله، ونفاه إلى البحرين.
وفيها اتفق عبد الأضحى والشعانين لنصارى، وعبد الفطر لليهود، في يوم واحد، وحج بالناس فيها عبد الصمد بن موسى.
وفيها توفي إسحاق بم موسى بن عبد الله بن موسى الأنصاري؛ وعلي بن حجر السعدي المروزي وهما إمامان في الحديث؛ ومحمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب؛ ومحمد بن عبد الله بن أبي عثمان بن عبد الله بن خالد بن أسيد ابن أبي العيص بن أمية القاضي في جمادى الأولى.
أسيد بفتح الهمزة.

.حوادث سنة خمس وأربعين ومائتين:

في هذه السنة أمر المتوكل ببناء الماخورة، وسماها الجعفرية، وأقطع القواد وأصحابه فيهأن وجد في بنائهأن وأنفق عليها فيما قل أكثر من ألفي ألف دينار، وجمع فيها القراء، فقرأوأن وحضرها أصحاب الملاهي، فوهب أكثر من ألفي ألف درهم، وكان يسميها هووأصحابه المتوكلية، وبنى فيها قصراً سماه لؤلؤة لم ير مثله في علوه، وحفر لها نهراً يسقي ما حولهأن فقتل المتوكل، فبطل حفر النهر، وأخربت الجعفرية.
وفيها زلزلت بلاد المغرب، فخربت الحصون، والمنازل، والقناطر، ففرق المتوكل ثلاثة آلاف ألف درهم فيمن أصيب بمنزله، وزلزل عسكر المهدي، والمدائن، وزلزلت أنطاكية فقتل بها خلق كثير، فسقط منها ألف وخمس مائة دار، وسقطج من سورها نيف وتسعون برجأن وسمعوا أصواتاً هائلة لا يحسنون وصفهأن وتقطع جبلها الأقرع وسقط في البحر.
وهاج البحر ذلك اليوم، وارتفع منه دخان أسود مظلم منتن، وغار منها نهر على فرسخ لا يدري أين ذهب، وسمع أهل سيس، فيما قيل، صيحة دائمة هائلة، فمات منها خلق كثير، فتزلزلت ديار الجزيرة، والثغور، وطرسوس وأدنة، وزلزلت الشام، فلم يسمع من أهل اللاذقية إلا اليسير، وهلك أهل جبلة.
وفيها غارت مسنيات عين مكة، فبلغ ثمن القربة ثمانين درهمأن فبعث المتوكل، مالأن وأنفق عليها.
وفيها مات إسحاق بن أبي إسرائيل، وهلال الرازي.
وفيها هلك نجاح بن سلمة، وكان سبب هلاكه أنه كان على ديوان التوقيع، وتتبع العمال، وكان على الضياع، فكان جميع العمال يتوقونه، ويقضون حوائجه، وكان المتوكل ربما نادمه، وكان الحسن بن مخلد، وموسى بن عبد الملك قد انقطعا إلى عبيد الله بن يحيى بن خاقان، وزير المتوكل، وكان الحسن على ديوان الضياع، وموسى على ديوان الخراج، فكتب نجاح بن سلمة فيهما رقعة إلى المتوكل أنهما خانا وقصرا وأنه يستخرج منها أربعين ألف ألف؛ فقال له المتوكل: بكر غداً حتى أدفعهما إليك. فغدا وقد رتب أصحابه لأخذهمأن فلقيه عبيد الله بن يحيى الوزير، فقال له: أنا أشير عليك بمصالحتهمأن وتكتب رقعة أنك كنت شاربأن وتكلمت ناسيأن وأنا أصلح بينكمأن وأصلح الحال عند أمير المؤمنين، ولم يزل يخدعه حتى كتب خطه بذلك.
فلما كتب خطه صرفه، واحضر الحسن وموسى، وعرفهما الحال، وأمرهما أن يكتبا في نجاح وأصحابه بألفي ألف دينار، ففعلأن وأخذ الرقعتين وأدخلهما على المتوكل، وقال: قد رجع نجاح عما قال، وهذه رقعة موسى والحسن ويتقبلان بما كتبأن فتأخذ ما ضمنا عليه، ثم تعطف عليهما فتأخذ منهما قريباً منه.
فسر المتوكل بذلك، وأمر بدفعه إليهمأن فأخذاه وأولاده، فأقروا بنحومائة أربعين ألف دينار سوى الغلات، والغرس، والضياع، وغير ذلك، فقبض ذلك أجمع، وضرب، ثم عصرت خصيتاه حتى مات، وأقر أولاده بعد الضرب بسبعين ألف دينار، سوى ما لهما من ملك وغيره، فأخذ الجميع وأخذ من وكلائه في جميع البلاد مال جزيل.
وفيها أغارت الروم على سميساط، فقتلوأن وسبوأن وأسردوأن خلقاً كثيرأن وغزا علي بن يحيى الأرمني الصائفة، ومنع أهل لؤلؤة رئيسهم من الصعود إليهأن فبعث إليهم ملك الروم بطريقاً يضمن لكل رجل منهم ألف دينار على أن يسلموا إليه لؤلؤة، فأصعدوا البطريق إليهم، ثم أعطوا أرزاقهم الفائتة وما أرادوأن فسلموا لؤلؤة والبطريق إلى بلكاجور، فسيره إلى المتوكل فبذل ملك الروم في فدائه ألف مسلم.
وحج بالناس محمد بن سليمان بن عبد الله بن محمد بن إبراهيم الإمام يعرف بالزيني وهووالي مكة.
وكان نيروز المتوكل الذي أرفق أهل الخراج بتأخيره إياه عنهم لإحدى عشرة خلت من شهر ربيع الأول، ولسبع خلت من حزيران، ولثمان وعشرين من أردبيهشت، فقال البحتري:
إن يوم النيروز عاد إلى العه ** د الذي كان سنه أردشير

.ذكر خروج الكفار بالأندلس إلى بلاد الإسلام:

في هذه السنة خرج المجوس من بلاد الأندلس، في مراكب، إلى بلاد الإسلام، فأمر محمد بن عبد الرحمن، صاحب بلاد الإسلام، بإخراج العساكر إلى قتالهم، وأحرقت المسجد الجامع، ثم جازت إلى العدوة، فحلت بناكور، ثم عادت إلى الأندلس، فانهزم أهل تدمير، ودخلوا حصن أريوالة.
ثم تقدموا إلى حائط إفرنجة، وأغاروأن وأصابوا من النهب والسبي كثيراً ثم انصرفوأن فلقيتهم مراكب محمد، فقاتلوهم، فأحرقوا مركبين من مراكب الكفار، وأخذوا مركبين آخرين، فغمنوا ما فيهمأن فحمي الكفرة عند ذلك، وجدوا في القتال، فاستشهد جماعة من المسلمين، ومضت مراكب المجوس حتى وصلت إلى مدينة بنبلونة، فأصابوا صاحبها غرسية الفرنجي، فاقتدى نفسه منهم بتسعين ألف دينار.
وفيها غزا عامل طرسونة إلى بنبلونة، فافتتح حصن بيلسان وسبى أهله، ثم كانت على المسلمين في اليوم الثاني وقعة استشهد فيها جماعة.

.ذكر الحرب بين البربر وابن الأغلب بإفريقية:

في هذه السنة كانت بين البربر وعسكر أبي إبراهيم أحمد بن محمد بن الأغلب وقعة عظيمة في جمادى الآخرة.
وسببها أن بربر لهان امتنعوا على عامل طرابلس من أداء عشورهم وصدقاتهم، وحاربوه فهزموه، فقصد لبدة فحصنهأن وسار إلى طرابلس، فسير إليه أحمد بن محمد الأمير جيشاً مع أخيه زيادة الله، فانهزم البربر، وقتل منهم خلق كثير، وسير زيادة الله الخيل في آثارهم، فقتل من أدرك منهم، وأسر جماعة، فضربت أعناقهم، وأحرق ما كان في عسكرهم، فأذعن البربر بعدهأن وأعطوا الرهن، وأدوا طاعتهم.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة توفي يعقوب بن إسحاق النحوي المعروف بابن السكيت، وكان سبب موته أنه اتصل بالمتوكل، فقال له: أيما أحب إليك المعتز والمؤيد، أوالحسن والحسين؟ فتنقص ابنيه، وذكر الحسن والحسين، عليهما السلام، بما همل أهل له، فأمر الأتراك فداسوا بطنه، فحمل إلى داره فمات.
وفيها توفي ذوالنون المصري في ذي العقدة؛ وأبوتراب النخشبي الصوفي، نهشته السباع فمات بالبادية؛ وأبوعلي الحسين بن علي، المعروف بالكرابيسي، صاحب الشافعي، وقيل مات سنة ثمان وأربعين؛ وسوار بن عبد الله القاضي العنبري، وكان قد عمي.

.حوادث سنة ست وأربعين ومائتين:

وفيها غزا عمرو بن عبد الله الأقطع الصائفة، فأخرج سبعة عشر ألف راس، وغزا قريباس، وأخرج خمسة آلاف رأس، وغزا الفضل ابن قارن بحراً في عشرين مركبأن فافتتح حصن أنطاكية، وغزا بلكاجور، فغمن، وسبى، وغزا علي بن يحيى الأرمني، فأخرج خمسة آلاف رأس، ومن الدواب، والرمك، والحمير، ونحواً من عشرة آلاف رأس.
وفيها تحول المتوكل إلى الجعفرية.
وفيها كان الفداء على يد علي بن يحيى الأرمني، ففودي بألفين وثلاثمائة وسبعة وستين نفساً.
وفيها مطر أهل بغداد نيفاً وعشرين يومأن حتى نبت العشب فوق الاجاجير؛ وصلى المتوكل صلاة الفطر بالجعفرية، وورد الخبر أن سكة بناحية بلخ تعرف بسكة الدهاقين مطرت دماً عبيطاً؛ وحج بالناس هذه السنة محمد بن سليمان الزينبي، وضحى أهل سامرا يوم الاثنين على الرؤية، وأهل مكة يوم الثلاثاء.
وفيها سار محمد بن عبد الرحمن، صاحب الأندلس، في جيوش عظيمة، وأهبة كثيرة إلى بلد بنبلونة فوطئ بلادهأن ودوخهأن وخربهأن ونهبهأن وقتل فيها فأكثر، وافتتح حصن فيروس، وحصن فالحسن، وحصن القشتل، وأصاب فيه فرتون بن غرسية، فحبسه بقرطبة عشرين سنة، ثم أطلقه إلى بلده، وكان عمره لما مات ستاً وتسعين سنة، وكان مقام محمد بنبلونة اثنين وثلاثين يوماً.
وفيها توفي دعبل بن علي الخزاعي الشاع وكان مولده سنة ثمان وأربعين ومائة، وكان يتشيع.
وفيها توفي السري بن معاذ الشيباني بالري، وكان أميراً عليهأن حسن السيرة، من أهل الفضل؛ وتوفي أحمد بن إبراهيم الدورقي ببغداد، ومحمد بن سليمان الأسدي الملقب بكوين.

.حوادث سنة سبع وأربعين ومائتين:

.ذكر مقتل المتوكل:

وفي هذه السنة قتل المتوكل، وكان سبب قتله أنه أمر بإنشاء الكتب بقبض ضياع وصيف بأصبهان والجبل، وإقطاعها الفتح بن خاقان، فكتبت وصارت إلى الخاتم، فبلغ ذلك وصيفأن وكان المتوكل أراد أن يصلي بالناس أول جمعة في رمضان، وشاع في الناس، واجتمعوا لذلك، وخرج بنوهاشم من بغداد لرفع القصص وكلامه إذا ركب.
فلما كان يوم الجمعة، وأراد الركوب للصلاة، قال له عبيد الله بن يحيى والفتح بن خاقان: إن الناس قد كثروا من أهل بيتك ون غيرهم، فبعض متظلم، وبعض طالب حاجة، وأمير المؤمنين يشكوضيق الصدر، وعلة به، فإن رأى أمير المؤمنين أن يأمر بعض ولاة العهود بالصلاة، ونكون معه، فليفعل.
فأمر المنتصر بالصلاة، فلما نهض للركوب قالا له: يا أمير المؤمنين، إن رأيت أن تأمر المعتز بالصالة، فقد اجتمع الناس لتشرفه بذلك، وقد بلغ الله به؛ وكان قد ولد للمعتز قبل ذلك ولد، فأمر المعتز، فركب فصلى بالناس، وأقام المنتصر في داره بالجعفرية، فزاد ذلك في إغرائه.
فلما فرغ المعتز من خطبيه قام إليه عبيد الله والفتح بن خاقان فقبلا يديه ورجليه، فلا فرغ من الصلاة انصرف ومعه الناس في موكب الخلافة، حتى دخل على أبيه، فأثنوا عليه عنده، فسره ذلك.
فلما كان عيد الفطر قال: مروا المنتصر يصلي بالناس! فقال له عبيد الله: قد كان الناس يتطلعون إلى رؤية أمير المؤمنين، واحتشدوا لذلك؛ فلم يركب؛ ولا يأمن إن هولم يركب اليوم، أن يرجف الناس بعلته، فإذا رأى أمير المؤمنين أن يسر الأولياء، ويكبت الأعداء بركوبه فليفعل.
فركب وقد وصف له الناس نحوأربعة أميال، وترجلوا بين يديه، فصلى، ورجع، فأخذ حفنة من التراب، فوضعها على رأسه وقال: إني رأيت كثرة هذا الجمع، ورأيتهم تحت يدي، فأحببت أن أتراضع لله؛ فلما كان اليوم الثالث افتصد، واشتهى لحم جزور، فأكله، وكان قد حضر عنده ابن الحفصي وغيره، فأكلوا بين يديه. قال: ولم يكن يوم أسر من ذلك اليوم، ودعا الندماء والمغنين، فحضروأن وأهدت له أم المعتز مطرف خز أخضر، لم ير الناس مثله، فنظر إليه، فأطال، وأكثر تعجبه منه، وأمر فقطع نصفين ورده عليهأن وقال لرسولها: والله إن نفسي لتحدثني أني لا ألبسه، وما احب أن يلبسه أحد بعدي، ولهذا أمرت بشقه.
قال فقلنا: نعيذك بالله أن تقول مثل هذا؛ قال: وأخذ في الشرب واللهو. ولج بأن يقول: أنا والله مفارقكم عن قليل! ولم يزل في لهوه وسروره إلى الليل.
وكان قد عزم هوالفتح أن يفتكا بكرة غد بالمنتصر ووصيف وبغا وغيرهم من قواد الأتراك، وقد كان المنتصر واعد الأتراك ووصيفاً وغيره على قتل المتوكل.
وكثر عبث المتوكل، قبل ذلك بيوم، بابنه المنتصر، مرة يشتمه، ومرة يسقيه فوق طاقته، ومرة يأمر بصفعه، ومرة يتهدده بالقتل، ثم قال للفتح: برئت من الله ومن قرابتي من رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إن لم تلطمه يعني المنتصر فقام إليه فلطمه مرتين، ثم أمر يده على قفاه، ثم قال لمن حضره: اشهدوا عليّ جميعاً أني قد خلعت المستعجل يعني المنتصر ثم التفت إليه فقال: سميتك المنتصر، فسماك الناس، لحمقك، المنتظر، ثم صرت الآن المستعجل.
فقال المنتصر: لوأمرت بضرب عنقي كان أسهل عليّ مما تفعله بي؛ فقال: اسقوه، ثم أمر بالعشاء فأحضر، وذلك في جوف الليل، فخرج المنتصر من عنده، وأمر بناناً غلام أحمد بن يحيى أن يلحقه، وأخذ بيد زرافة الحاجب، وقال له: امض معي! فقال: إن أمير المؤمنين لم يمن، فقال: إنه قد أخذ منه النبيذ، والساعة يخرج بغا والندماء، وقد أحببت أن تجعل أمر ولدك إلي، فإن أوتامش سألني أن أزوج ولده من ابنتك، وابنك من ابنته؛ فقال: نحن عبيدك فمر بأمرك! فسار معه إلى حجرة هناك، وأكلا طعامأن فسمعا الضجة والصراخ، فقامأن وإذا بغا قد لقي المنتصر، فقال المنتصر: ما هذا؟ فقال: خير يا أمير المؤمنين، قال: ما تقول ويلك؟ قال: أعظم الله أجرك في سيدنا أمير المؤمنين، كان عباً لله دعاه فأجابه.
فجلس المنتصر، وأمر بباب البيت الذي قتل فيه المتوك فأغلق، وأغلقت الأبواب كلهأن وبعث إلى وصيف يأمره بإحضار المعتز والمؤيد عن رسالة المتوكل.
وأما كيفية قتل المتوكل، فإنه لما خرج المنتصر دعا المتوكل بالمائدة، وكان بغا الصغير المعروف بالشرابي قائماً عند الستر، وذلك اليوم كان نوبة بغا الكبير، وكان خليفته في الدار ابنه موسى، وموسى هوابن خالة المتوكل، وكان أبوه يومئذ بسميساط، فدخل بغا الصغير إلى المجلس، فأمر الندماء بالانصراف إلى حجرهم، فقال له الفتح: ليس هذا وقت انصرافهم، وأمير المؤمنين لم يرتفع؛ فقال بغا: إن أمير المؤمنين أمرني أنه إذا جاوز السبعة لا أترك أحدأن وقد شرب أربعة عشر رطلأن وحرم أمير المؤمنين خلف الستارة. وأخرجهم، فلم يبق إلا الفتح وعثعث، وأربعة من خدم الخاصة، وأبوأحمد بن المتوكل، وهوأخوالمؤيد لأمه.
وكان بغا الشرابي أغلق الأبواب كلهأن إلا باب الشط، ومنه دخل القوم الذين قتلوه، فبصر بهم أبوأحمد، فقال: ما هذا يا سفل! وإذا سيوف مسللة، فلما سمع المتوكل صوت أي أحمد رفع رأسه، فرآهم فقال: ما هذا يا بغا؟ فقال: هؤلاء رجال النوبة؛ فرجعوا إلى ورائهم عند كلامه، ولم يكن واجن وأصحابه وولد وصيف حضروا معهم، فقال لهم بغا: يا سفل! أنتم مقتولون لا محالة، فموتوا كراماً! فرجعوأن فابتدره بغلون فضربه على كتفه وأذنه فقده، فقال: مهلاً! قطع الله يدك، وأراد الوثوب به، واستقبله بيده، فضربها فأبانهأن وشاركه باغر، فقال الفتح: ويلكم! أمير المؤمنين ** ورمى بنفسه على المتوكل، فبعجوه بسيوفهم، فصاح: الموت! وتنحى، فقتلوه.

وكانوا قالوا لوصيف ليحضر معهم، وقالوا: إنا نخاف؛ فقال: لا بأس عليكم، فقالوا له: أرسل معنا بعض ولدك، فأرسل معهم خمسة من ولده: صالحأن وأحمد، وعبد الله، ونصرأن وعبيد الله.
وقيل إن القوم لما دخلوا نظر إليهم عثعث، فقال للمتوكل: قد فرغنا من الأسد، والحيات، والعقارب، وصرنا إلى السيوف، وذلك أنه ربما أسلى الحية والعقرب والأسد، فلما ذكر عثعث السيوف قال: يا ويلك! أي سيوف؟ فما استتم كلامه حتى دخلوا عليه وقتلوه، وقتلوا الفتح، وخرجوا إلى المنتصر، فسلموا عليه بالخلافة، وقالوا: مات أمير المؤمنين، وقاموا علي رأس زرافة بالسيوف، وقالوا: بايع، فبايع.
وأرسل المنتصر إلى وصيف: إن الفتح قد قتل أبي فقتلته، فاحضر في وجوه أصحابك! فحضر هووأصحابه، فبايعوا. وكان عبيد الله بن يحيى في حجرته ينفذ الأمور ولا يعلم، وبين يديه جعفر بن حامد، إذ كلع عليه بعض الخدم فقال: ما يحسبك والدار سيف واحد؟ فأمر جعفراً بالنظر، فخرج، وعاد وأخبره أن المتوكل والفتح قتلأن فخرج فيمن عنده من خدمه وخاصته، فأخبر أن الأبواب مغلقة، وأخذ نحوالشط، فإذا أبوابه مغلقة، فأمر بكسر ثلاثة أبواب، وخرج إلى الشط، وركب في زورق، فأتى منزل المعتز، فسأل عنه، فلم يصادفه، فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، قتل نفسه وقتلني.
واجتمع إلى عبيد الله أصحابه غداة يوم الأربعاء، من الأبناء، والعجم، والأرمن والزواقيل، وغيرهم، فكانوا زهاء عشرة آلاف، وقيل كانوا ثلاثة عشر ألفأن وقيل ما بين خمسة آلاف إلى عشرة آلاف، فقالوا: ما اصطنعتنا إلا لهذا اليوم، فمرنا بأمرك، وأذن لنا منل على اللوم ونقتل المنتصر ومن معه! فأبى ذلك، وقال: المعتز في أيديهم.
وذكر عن علي بن يحيى المنجم أنه قال: كنت أقرأ على المتوكل، قبل قتله بأيام، كتاباً من كتب الملاحم، فوقفت على موضع فيه أن الخليفة العاشر يقتل في مجلسه، فتوقفت عن قراءته، فقال: مالك؟ فقلت: خير! قال: لا بد من أن تقرأه، فقرأته، وحدث عن ذكر الخلفاء، فقال: ليت شعري من هذا الشقي المقتول؟ قال أبوالوارث، قاضي نصيبين: رأيت في النوم آتياً وهويقول:
يا نائم العين في جثمان يقظان ** ما بال عينك لا تبكي بتهتان

أما رأيت صروف الدهر ما فعلت ** بالهاشمي وبالفتح بن خاقان؟

فأتى البريد بعد أيام بقتلهما.
وكان قتله ليلة الأربعاء لأربع خلون من شوال، وقيل ليلة الخميس؛ وكانت خلافته أربع عشرة سنة وعشرة أشهر وثلاثة أيام، وكان مولده بفم الصلح في شوال سنة ست ومائتين، وكان عمره نحوأربعين سنة.
وكان أسمر، حسن العينين، نحيفأن خفيف العارضين، ورثاه الشعراء فأكثروأن ومما قيل فيه قول علي بن الجهم:
عبيد أمير المؤمنين قتله ** وأعظم آفات الملوك عبيدها

بني هاشم صبرأن فكل مصيبة ** سيبلى على وجه الزمان جديدها

.ذكر بعض سيرته:

ذكر أن أبا الشمط مروان بن أبي الجنوب قال: أنشدت المتوكل شعراً ذكرت فيه الرافضة فعقد لي على البحرين واليمامة، وخلع علي أربع خلع، وخلع علي المنتصر، وأمر لي المتوكل بثلاثة آلاف دينار، فنثرت علي، وأمر ابنه المنتصر وسعداً الإيتاخي أن يلقطاها لي، ففعلأن والشعر الذي قلته:
ملك الخليفة جعفر ** لدين والدنيا سلامه

لكم تراث محمد ** وبعد لكم تشفى الظلامة

يرجوالتراث بنوالبنا ** ت وما لهم فيها قلامه

والصهر ليس بوارث ** والبنت لا ترث الإمامه

ما للذين تنحلوا ** ميراثكم إلا الندامة

أخذ الوراثة أهلها ** فعلام لومكم علامه

لوكان حقكم لما ** قامت على الأنس الثيامه

ليس التراث لغيركم ** لا والإله، ولا كرامه

أصبحت بين محبكم ** والمبغضين لكم علامه

ثم نثر علي، بعد ذلك، لشعر قلته في هذا المعنى عشرة آلاف درهم.
وقال يحيى بن أكثم: حضرت المتوكل، فجرى بيني وبينه ذكر المأمون، فقلت بتفضيله، وتقريظه، ووصف محاسنه وعلمه ومعرفته قولاً كثيرأن لم يقع لموافقة من حضر، فقال المتوكل: كيف كان يقول في القرآن؟ فقلت: كان يقول: ما مع القرآن حاجة إلى علم فرض، ولا مع السنة وحشة إلى فعل أحد، ولا مع البيان والأفهام حجة لتعلم، ولا بعد الجحود للبرهان والحق إلا السيف، لظهور الحجة.
فقال المتوكل: لم أرد منك ما ذهبت إليه، فقال يحيى: القول بالمحاسن في المغيب فريضة على ذي نعمة.
قال: فا كان يقول خلال حديثه، فإن أمير المؤمنين المعتصم بالله، رحمه اله، كان يقوله وقد أنسيته؛ قال كان يقول: اللهم إني أحمدك على النعم التي لا يحصيها غيرك، وأستغفرك من الذنوب التي لا يحيط بها إلا عفوك.
قال: فما كان يقول إذا استحسن شيئأن أوبشر بشيء؟ فقد نسيناه؛ قال يحيى: كان يقول إن ذكر آلاء الله وكثرتهأن وتعداد نعمه، والحديث بها فرض من الله على أهلهأن وطاعة لأمره فيهأن وشكر له عليهأن فلا حمد لله العظيم الآلاء السابغ النعماء بما هوأهله ومستوجبه من محامده القاضية حقه، البالغة شكره، المانعة غيره، الموجبة مزيده على ما لا يحصيه تعدادنأن ولا يحيط به ذكرنا من ترادف منته، وتتابع فضله، ودوام طوله، حمد من يعلم أن ذلك منه، والشكر له عليه، فقال المتوكل: صدقت، هذا هوالكلام بعينه.
وقدم في هذه السنة محمد بن عبد الله بن طاهر من مكة في صفر فشكا ما ناله من الغم بما وقع من الخلاف في يوم النحر، فأمر المتوكل بإنفاذ خريطة من الباب إلى أهل الموسم برؤية هلال ذي الحجة، وأمر أن يقام على المشعر الحرام، وسائر المشاعر، الشمع مكان الزيت والنفط.
وفيها ماتت أم المتوكل في شهر ربيع الآخر، وصلى عليها المنتصر، ودفنت عند المسجد الجامع، وكان موتها قبل المتوكل بستة أشهر.